ملخص المقال
بين صناعة المفكر ونثر الأفكار، مقال هدى عبد الرحمن النمر، ترسم خطوات القراءة السليمة، حيث جودة الطلب لا كثرته، وعمق الرحلة لا طولها
"الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده"، على بداهة هذه القاعدة وكثرة تردادها، لا نلبث نغفل عنها في كثير من شواغلنا، فتكون المحصلة أن نغرق في عمل ما لمجرد الغرق أو مجرد العمل، وتتحول الوسائل لغايات، وفي المقابل تضيع الغايات الحقيقية، وينتهي الأمر بالعامل كأنه لم يعمل.
مثال ذلك: كم من طالب للثقافة حريص على الاستزادة من أكوام الكتب، إذا حدثته أو خبرت مكنونه تفاجأ بأفكار منثورة بلا نسق متكامل، ومعرفة سطحية ما لها من قرار، وشذرات من هنا وهناك لا رابط بينها، والأدهى أن يتكلم بصياغات ركيكية وتعبيرات باهتة ولغة مترهلة لا تتماشى والعناوين الجليلة التي يفخر بقراءتها. فالقراءة في كل ما هبّ ودبّ لا تعني إلا معرفة خاطفة سطحية، فهي شيء كالجهل المقنع.
في المقابل، كم من مختص متحجر في اختصاصه، ضيق الأفق، ضحل الفكر، يفتقر لرؤية شمولية ووعي متسع المدارك فيما يتداخل مع دائرة تأثيره أو اختصاصه. وكلا الفريقين منسوب لأهل العلم والعاكفين على المعرفة، ثم ما حظهما منهما إلا كحَسْوِ الطائر أو نقر الديك.
ترى، ما الذي يجري؟ وأين مكمن الخلل؟
الحق أن القراءة ليست كل شيء ولا أي شيء .. بذاتها! القراءة هي وسيلة لاكتساب العلم، والعلم وسيلة للارتقاء في الفهم وملكة التعبير عن الفهم، والأخيران وسيلة لتواصل بنّاء مع الذات والآخرين.
إذن تبقى القراءة مدخلا ضمن مداخل أخرى، خاصة في عصر المعلومات فيه كالسيل الهادر بلا نهاية، فما لم نغترف منه بتخطيط ومنهجية ووعي ويقظة لحاجاتنا، سنغرق فيه ونختنق، وتكون مادة الحياة سبب الوفاة!
يقول د. عبد الوهاب المسيري في كتاب "رحلتي الفكرية": "الرغبة المعلوماتية حينما تنهش إنسانا فإنها تجعله يقرأ كل شيء حتى يعرف كل شيء، فيتنهي الأمر بالمسكين ألا يعرف أي شيء ... المعرفة لا حدود لها والمعلومات بحر يمكن أن يبتلع المرء، ومن هنا لابد من التوقف عند نقطة ما ... فلو قرأت كل ما كتب عن تخصصي لقضيت سحابة أيامي أقرأ وأستوعب دون أن أنتج شيئا ".
بتعبير آخر، لا غنى عن النصيحة النبوية "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ"، وفي رواية ضعيفة لكنها صحيحة المعنى "فَإِنَّ الْمُنْبَتَّ لاَ أَرْضًا قَطَعَ، وَلاَ ظَهْرًا أَبْقَى"، أي أن المتعجل في السير سيرهق الدابة ولن يبلغ المحل مع ذلك.
إن أهم بوصلة ينبغي أن يحرص عليها طالب العلم ومريد الثقافة هي جودة الطلب لا كثرة الطلب، وعمق الرحلة لا طولها ولا سرعتها. فكتاب واحد تحسن فهمه واستخلاصه والتعبير عما فيه، خير من ألف كتاب تقرؤها كببغاء عقله في أذنيه، أسيرا لفكر متتابع يحيط بك إحاطة السوار بالمعصم، مستمعا بالتلقي السلبي لما جادت به قرائح الآخرين.
لابد لأي مدخلات جديدة أن تأخذ وقتها في عقلك، فتقلبها على وجوهها وتتفكر فيها: فتدون الأفكار التي تعثر عليها، أو تخطر لك حول ما عثرت عليه، وتهتم بالربط بين ما تقرأ وما تسمع وما ترى.
لن يكون هذا يسيرا للمبتدئ غالبا، ولكنه سيكون تهيئة للأرض البكر، كي يزرع فيها التفكير المستقل، وهكذا بمرور الوقت يبدأ عقلك تلقائيا في تشكيل نسقه الفكري الخاص، وتطويره كلما ورد عليه جديد.
ومع الممارسة ستتكون لديك غريزة أو حاسة الاستشعار المعرفي الذي يمكنك من وزن الأفكار وتثمين الكتب، والمرحلة المعرفية التي وصل إليها الكاتب، وتحديد مدى حاجتك إليها أو إلى جزء منها. وقد تشعر بالحاجة للعودة لكتاب قرأته أو صعب عليك في مرحلة ما هضمه، فتجد أنك تقرؤه بعقلية أنضج ومدارك جديدة، بل لعلك تقدر على الإضافة إليه أو الاستكمال عليه.
ومن الضروري أن نبقى يقظين لمسارات تفكيرنا، ذلك أن الأفكار التي تتسلل لعقلك دون غربلة منك اليوم، هي التي ستشكل رؤيتك وتطبع سلوكك غدا، ووقتها سيكون الدفاع أصعب وأشد، وقد كانت الوقاية خيرا وأيسر من العلاج.
الخلاصة
1- حذار من طرفي النقيض: الانغلاق العلمي أو السطحية المعرفية، والوقاية من ذلك هي الحرص على جودة الطلب لا كثرته "أَدْوَمُهُ وَإِنْ قَلَّ".
2- اقرأ لتحيا، ولا تحيا لتقرأ: متى وجدت نفسك تحولت للخط الثاني توقف، واستدر مصححا المسار.
التعليقات
إرسال تعليقك